يقف حلف شمال الأطلسي “الناتو” على مياه متحركة قبل أيام من قمة منتظرة للتكتل العسكري الأهم عالميا في واشنطن.
وبينما يستعد الناتو للاحتفال بالذكرى السنوية الخامسة والسبعين لتأسيسه، لا يُتوقع أن تحمل أجندة القمة المقررة الخميس، احتفالات واستعراض للإنجازات بقدر المخاوف، وفقا لمجلة “فورين بوليسي” الأمريكية.
فالأسهم المدببة بدأت تتوجه نحو صدر التكتل العسكري الأقوى في العالم، وتركيز الحلف مشتت بين أحداث في أوروبا وانتخابات مرتقبة بأمريكا.
ومن المرجح أن يعود الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، إلى الرئاسة الأمريكية في عام 2025، في ضوء استطلاعات الرأي الحالية، وسط صعود مطرد لتيار أقصى اليمين في أوروبا أيضا.
وينقسم الأوروبيون والأميركيون بشأن الحرب بين إسرائيل وحماس، والتعاطي الصين، وتنظيم التكنولوجيات الرقمية، وأفضل السبل لمساعدة أوكرانيا المحاصرة على نحو متزايد.
“ليست كسابقاتها”
في السابق، واجه التحالف أزمات خطيرة طوال تاريخه، وكانت التقارير التي تتحدث عن زواله الوشيك دائمًا ما تكون سابقة لأوانها.
فعلى سبيل المثال، كانت حرب السويس المعروفة باسم العدوان الثلاثي عام 1956 بمثابة صدع خطير، وكذلك كانت حرب فيتنام. كما تسببت الخلافات حول العقيدة العسكرية (وخاصة دور الأسلحة النووية) في إثقال كاهل التحالف طوال الحرب الباردة، فيما كان الخلاف داخل التحالف واضحًا أثناء حرب كوسوفو عام 1999.
وفي 2003، عارضت ألمانيا وفرنسا علنًا قرار إدارة الرئيس الأمريكي السابق، جورج دبليو بوش، غزو العراق.
وهنا، أشار تحليل فورين بوليسي إلى أنه “ربما تكون مشاكل اليوم مجرد مد خيط الخلافات على استقامته، ويجب على الجميع البدء في التخطيط للاحتفال بالذكرى، ولكن لا ينبغي أن نتجاهل الأصوات القلقة”.
ووفق قواعد العمل المؤسسي، فبمجرد إنشاء المؤسسات، فإنها غالباً ما تستمر لفترة طويلة بعد زوال الظروف التي نشأت فيها.
وتعزز استمرارية “الناتو” بعد زوال تهديد الشيوعية، بيروقراطية ضخمة وراسخة في بروكسل ومجموعة داعمة من المسؤولين السابقين، والمعلقين المؤيدين للأطلسي، ومراكز البحوث الممولة جيداً والتي تدافع عنه في كل منعطف.
ونظراً لاتساع نطاق الدعم النخبوي، فمن المؤكد أن قمة الأسبوع المقبل في واشنطن، لن تكون الأخيرة لحلف شمال الأطلسي.
ولكن الوضع اليوم مختلف بشكل ملحوظ عن لحظات التوتر السابقة داخل التحالف، والقوى التي تهدد مستقبل حلف شمال الأطلسي تتجاوز الميول الشخصية لزعماء فرديين مثل ترامب أو مارين لوبان (زعيمة تيار أقصى اليمين في فرنسا).
ويتمثل المصدر الأكثر وضوحاً للتوتر داخل حلف شمال الأطلسي، في التحول في توزيع القوة العالمية.
فعندما تشكل حلف شمال الأطلسي في عام 1949، كانت الدول الأوروبية تتعافى من الحرب العالمية الثانية، وبدا أن الاتحاد السوفياتي يشكل تهديداً لا تستطيع أوروبا التعامل معه من دون مساعدة نشطة من الولايات المتحدة.
وكانت أوروبا أيضاً واحدة من المراكز الرئيسية للقوة الصناعية في العالم، وبالتالي كانت جائزة استراتيجية ذات قيمة خاصة في ذلك الوقت.
واقع مختلف
والآن، لم يعد الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو موجودين، ولم تعد روسيا تمتلك القدرة على غزو وإخضاع القارة الأوروبية.
وقال تحليل فورين بوليسي: “صحيح أنها (روسيا) تشن حرباً في أوكرانيا وقد تهدد ذات يوم دول البلطيق الصغيرة، ولكن فكرة أن الجيش الروسي يعتزم شن حرب خاطفة على بولندا والتوجه إلى القنال الإنجليزي فكرة مضحكة”.
فالجيش الذي يواجه أوكرانيا الأصغر والأضعف لن يتحول إلى أداة للتوسع الإقليمي السريع، حتى ولو كان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يحمل مثل هذه الطموحات، وفق المجلة.
وفي غضون ذلك، برزت الصين كمنافس ند للولايات المتحدة في قطاعات مختلفة، وأكبر دولة تجارية في العالم.
واليوم، أصبحت حصة آسيا من الاقتصاد العالمي (54%) أكبر بكثير من حصة أوروبا (17%)، ومساهمتها في النمو الاقتصادي العالمي أعلى أيضًا.
كما تتقدم الصين بمطالبات إقليمية يمكن أن تغير بشكل أساسي البيئة الأمنية هناك.
وبالتالي، لأسباب هيكلية بحتة، تحظى آسيا “بحق” بحصة أكبر من اهتمام الولايات المتحدة اليوم، وتستحق أوروبا “بحق” حصة أقل، على حد قول التحليل.
المجلة استدركت “هذا لا يعني أن أوروبا ليست ذات أهمية على الإطلاق، لكنها لم تعد تحتل مكانة الصدارة بين المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة”.
ومن ناحية أخرى، أضاف توسع حلف شمال الأطلسي متطلبات أمنية جديدة، ولكنه لم يضف قدرة إضافية.
والواقع أن التوقعات بأن التوسع المفتوح شرقاً من شأنه أن يؤدي إلى أوروبا “كاملة وحرة وتنعم بالسلام” تبدو اليوم جوفاء إلى حد كبير، في ظل الحرب الدائرة في أوكرانيا وجمود العلاقات مع روسيا.
شكوك حول القيمة
إلى ذلك، ونظراً لسجل “الناتو” الحافل بالفشل في النتائج النهائية في معظم القضايا التي تدخل فيها، فمن الممكن إدراك السبب وراء تزايد الشكوك حول قيمته حتى مع تدهور البيئة الأمنية في أوروبا.
والأمثلة كثيرة، إذ يستطيع حلف شمال الأطلسي أن يزعم تحقيق نجاح جزئي في حرب كوسوفو في عام 1999، ولكن تلك المعركة لم تكن شهادة على التضامن داخل التحالف، ولا تزال السياسة في البلقان حساسة “في أفضل تقدير”.
كما حشد أعضاء حلف شمال الأطلسي الدعم للولايات المتحدة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، فاستعانوا بالمادة الخامسة للمرة الأولى والوحيدة، ولكن الجهود اللاحقة التي بذلها التحالف فيما يسمى ببناء الأمة في أفغانستان، كانت فشلاً ذي كلفة عالية.
ولم يكن التدخل المشترك بين بريطانيا وفرنسا وأمريكا في ليبيا في عام 2011 عملية لحلف شمال الأطلسي، ولكنه كان مثالاً واضحاً للتعاون الأمني عبر الأطلسي، وكانت النتيجة تحويل ليبيا إلى دولة فاشلة أخرى.
ومن الواضح أن حلف شمال الأطلسي ساعد أوكرانيا على النجاة من القوات الروسية والدفاع عن معظم أراضيها، ولكن من غير المرجح أن تنتهي الحرب بانتصار واضح يحتفل به التحالف.
“أصبح كهلا”
وأخيرًا، لفتت “فورين بوليسي” إلى أن حلف شمال الأطلسي يواجه مشكلة تتعلق باستمراره عقود طويلة، ولأن الكليشيهات المألوفة حول القيم المشتركة والتضامن عبر الأطلسي لم تعد تلقى صدى قويًا كما كانت في السابق، وخاصة بين الأجيال الشابة.
كما أن نسبة الأمريكيين من أصل أوروبي آخذة في الانخفاض، مما يزيد من تآكل الروابط العاطفية مع “البلد القديم”، وبالتالي تقوية دعائم التحالف عبر الأطلسي.
وليس من المستغرب أن الأمريكيين الأصغر سنًا أقل اقتناعًا بمزاعم استثنائية الولايات المتحدة وأقل ميلاً إلى دعم دور دولي نشط من أسلافهم.
لذلك، لا شيء من هذا يبشر بالخير لشراكة أمنية لا تزال تعتمد بشكل كبير على الولايات المتحدة التي تعمل كمستجيب أول للصدمات.
“لن ينهار”
لكن التحليل اختتم بأنه ليس من المرجح أن ينهار حلف شمال الأطلسي حتى لو أصبح دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة مرة أخرى، واكتسب المزيد من المشككين في حلف شمال الأطلسي السلطة في أوروبا.
ولكنه أشار إلى أن هناك قوى بنيوية قوية تعمل تدريجيا على دفع أوروبا والولايات المتحدة بعيدا عن بعضهما البعض، وستستمر هذه الاتجاهات بغض النظر عما قد يحدث في الانتخابات الأمريكية في نوفمبر/تشرين الثاني، ما يعني أن الحلف في خطر حقيقي.